في خباء بنت الصديق
بقلم: منى السعيد الشريف
عندما تعصف بنا رياح الغربة والضياع في زمن ذابت فيه المشاعر , وضاعت دمعة الصدقوسط أمواج الكذب والخداع , نعود لنبحث عن الأمان في زمن الخوف , عن الرحمة في زمنالقلوب الجامدة , عن الطهر والنقاء , فتضيع خطانا من جديد , ويصرخ فينا الصبر أعييتموني·· وتبقى لنا الذكرى شمعة تضيء النفوس الحائرة , وما أجمل التأمل في سيرتها وذكراها..
إنها النقية الطاهرة الصديقة بنت الصديق , عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ من تهيأ لها ما لم يتح لقريناتها , ونالت من الشرف والرفعة والكرامة ما خلَّد ذكراها في قلوبنا إلى اليوم , فقد أتيح لها تعلم القراءة , وهو أمر لم يسمُ له في زمانها إلا القلة من الرجال , فضلاً عن النساء , ونشأت في بيت عُرِفَ منذ الجاهلية بالرفعة والكرم , وإغاثة المكروب بين أحضان أم حنون , وأب عطوف نبيل , ثم تشرق على هذا البيت شمس الإسلام ؛ لتملأ أركانه دفئا وأمنا , رغم كل المخاطر والصعوبات المحدقة بالدعوة الوليدة , وتزيد من رفعة نفوس أهل البيت وشرفهم، ويصبح الصديق من أقرب المقربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويتلألأ البيت الطيب بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم , وتتعطر أركانه بعبق صوته الكريم، ثم هاهي تتوج بأعظم ما يمكن أن تناله امرأة من شرف وفضل حين يختارها الله عز وجل زوجة لأحب خلق الله إلى الله , فيحمل صورتها جبريل عليه السلام في حريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من رؤية قائلاً: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وتقترن الصديقة الطاهرة برسول الله صلى الله عليه وسلمليكون لها خير زوج ومعلم وراع وصديق , ويمن الله عليها بمحبة رسوله الكريم لها , فتصبحأحب أزواجه إليه فيتحقق لها أفضل ما تصبو إليه امرأة في زوجها·
يا الله !!! يا عائشة , بعد كل تلك المنن والمنح والشرف هل صفت لك الحياة , وخلت من الهموم والأحزان؟! لا والله ! فالمرء يبتلى بقدر إيمانه , والمستعرض لحياتها ـ رضوان الله عليها ـ يرى أنها قدصادفت الكثير من الهموم والكروب والأحزان , فها هي تُحرم من أجمل ما تتمناه امرأةوزوجة محبة , بأن تتوج علاقتها بالرجل الذي أحبته , وتمنت إسعاده بطفل يوطد أواصر تلكالعلاقة ويقويها، وقد ظهر ألمها وحزنها من الحرمان من الذرية يوم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم وهي حزينة كاسفة: كل صواحبي لهن كُنى! قال عليه الصلاة والسلام : " فاكتني بابنك عبدالله " يشير إلى عبدالله بن الزبير ابن أختها أسماء رضي الله عنها، فكانت تكنى به , وتحبه حب الأم لولدها.
ولنا أن نتخيل شعورها كامرأة تشتاق كل الشوق للأمومة وهي ترى فرحة النبي صلى الله عليه وسلم بابنه إبراهيم , وحبه الجارف للحسن والحسين أبناء السيدة فاطمة·· ولكن لئن كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ حُرمت من الأمومة فقد عوضها الله تعالى بأمومة كل المؤمنين , فهي من أمهات المؤمنين , والجميع يناديها: "يا أمه".
فكان هذا النداء خير عوض وتعزيه, كما كان في حب رسول الله ورعايته لها عوض آخر , تعرضت للحرمان منه بحادثة الإفك·· محنة أخرى وعاصفة كفيلة بأن تهدم أعظم بيت , حين تلوك ألسنة السوء سمعة وشرف زوجة نبي ورسول كريم , وتحيط بها الإشاعات والأقاويل , وهو أسوأ ما يمكن أن تبتلى به امرأة.
وتصف لنا السيدة عائشة حالها حين علمت بما يقال عنها قائلة: "وبكيت تلك الليلة والليلة التي بعدها , وأبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي" وعندما واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم بما أشيع عنها ما كان منها إلا أن قالت ": فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"( سورة : يوسف الاية 18)
ولكن رحمة الله قريب من عباده الصالحين , فينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة من الله تدفع عنها كل أذى , وتمر العاصفة بسلام يا عائشة، ولكنها لن تكون آخر الابتلاءات فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرض , وتشتد به الحمى , ويستأذن زوجاته في أن يمرض في حجرة عائشة , وتودع عائشة أحب خلق الله , الزوج الذي ملأ الحياة دفئاً ومودة، والرسول الذي فتح لها مناهل العلم والنور والهداية، وتظل عائشة في حجرتها بجوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره , وتستأنس به كما لو كان على قيد الحياة لم يغب عنها إلا الجسد.
أما روحه الشريفة فمازالت سراجاً يضيء ليل وحدتها , ثم يُدفن إلى جواره أبو بكر الصديق , فتودع الأب بعد أن ودعت الزوج، وتمضي السنون مسرعة , ويتولى عثمان الخلافة , وتحدث الفتنة الكبرى بأحداثها المريرة , ويتورط محمد بن أبي بكر في تلك الفتنة , فيدخل على عثمان رضي الله عنه يريد قتله , ويأخذ بلحيته , فيقول له عثمان رضي الله عنه: "مهلا يا بنأخي، فوالله لقد أخذت مأخذاً ما كان أبوك ليأخذ به"وفي رواية أخرى"لقد أخذتبلحية كان أبوك يكرمها" فيتركه محمد وينصرف مستحيياً نادما ً··
ويعلن محمد بن أبي بكر مراراً أنه بريء من دم عثمان , ولكن المأساة تكتمل فصولها الحزينة بمقتل محمد شر قتله في مصر، وكان علي ـ رضي الله عنه ـ قد ولاه عليها , فأنفذ إليه معاوية جيشاً لمحاربته والاستيلاء على مصر... فلما بلغ ذلك عائشة رضي الله عنها جزعت عليه جزعاً شديداً , وضمت أولاده إليها، وهكذا شاءت الأقدار أن تودع عائشة الأحبة واحداً تلو الآخر , وهي صابرة محتسبة ·
وترحل عائشة عن عمر يقارب السبعين , وتبقى ذكراها في القلوب العطرة الندية , والأنموذج الرائع للمرأة المسلمة الطاهرة , يزينها تاج الحياء والعفة حتى تقول ـ رضي الله عنها ـ: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ـ رضيالله عنه ـ واضعة ثوبي , وأقول : "إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمرـ رضي الله عنه ـ والله مادخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر" .
وزوجة أدركت قدسية حقوق الزوج , وأوصت بها كل بناتها قائلة "يا معشر النساء , لو تعلمن حق أزواجكن عليكن ؛ لجعلت المرأةمنكن تمسح الغبار عن وجه زوجها بنحر وجهها"وتحملت معه كفاف العيش , وأعباء الدعوة , فأضاءت بيتها بالسعادة والمودة حتى ملكت شغاف قلب زوجها صلى الله عليه وسلم , وروت عنه من الأحاديث والأخبار ما أفادت به الأمة.
وظلت الأجيال تلو الأجيال تنهل منه , فنهضت بأمانة التبليغ والتعليم أحسن النهوض وأوفاه، ثم هي العابدة التقية المتصدقة , يأتيها ما يقارب المائة ألف درهم ـ وهي صائمة ـ فتتصدق بها عن آخرها , فتقول لها جاريتها : أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فترد عائشة: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت، ويقول ابن سعد: رأيت عائشة تتصدق بسبعين ألفاً , وإنها لترقع جانب درعها ·· تلك هي عائشة، تلك هي عائشة·
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي الكويتية , العدد رقم: 487 التاريخ 25 / 4 / 2006
د.خالد الأحمد *
كثر الكلام عن الدولة المسلمة ، لأننا نقترب منها بإذن الله عز وجل (1)، ويتخوف كثير من العلمانيين والليبراليين وغير المسلمين من الدولة المسلمة ؛ لأن مجرد تسميتها بهذا الاسم يعتبرونها دولة دينية ( ثيوقراطية ) ويتخوفون منها ، ويعرقلون قيامها .
وقد اضطر بعض الدعاة أخيراً إلى استخدام مصطلح الدولة الحديثة بدلاً من الدولة المسلمة ، فثار عليهم بعض إخوانهم ، وقالوا : لماذا تسمونها الدولة الحديثة !!؟ ولماذا تهربون من تسميتها بالدولة المسلمة ، فأجاب الأخوة : إن مصطلح الدولة المسلمة مخيف لدى كثير من الناس ، لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ، ولا يعرفون حقيقة الدولة المسلمة ، ويتوهمون أن الدولة المسلمة مهمتها الأولى والأخيرة تطبيق الحدود ، كقطع الرقاب ، وقطع أيدي اللصوص ، ورجم الزناة المحصنين ، ورمي كل مخالف لها بالردة والزندقة , ومن ثم إقامة حد الردة عليه ، ويتذكرون دولة الكنيسة في أوربا الوسطى التي كانت تدعي أنها وكيلة عن الله ، وأنها تحكم باسم الله ، لذلك أحرقت العلماء والمفكرين وكل من خالفها ..
فما هي الدولة المسلمة ؟ وكيف تكون مدنية ؟ وليست دينية !؟
1 ـ الدولة الدينية ( الثيوقراطية ) : ويقصد بها الدولة التي تحكم باسم الإله ، وتجعل نفسها وكيلة عن الله عز وجل ، وفي هذه الحالة لا يجوز مراجعتها ، ولا مناقشتها ، أو محاسبتها ، ناهيك عن إقالتها واستبدالها بغيرها ، يقول الدكتور صلاح الصاوي : ( الثيوقراطية هي ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهي مصدراً للسلطة السياسية ، ويدعي القائمون عليه أنهم مفوضون عن الله ، وأنهم ناطقون باسم السماء ،... ويجب الإذعان لجميع قراراتهم ، والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض ؛ لأن الاعتراض عليها يكون اعتراضاً على الله الذي يتحدثون باسمه ، وهم وكلاؤه على الناس ...
وقد عرفت أوربا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطى ، بناء على الكلمة المأثورة لديهم ، والتي ينسبونها إلى السيد المسيح عليه السلام ( ما تحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء ، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء ).
ولهذا يملك الأحبار والرهبان حق النسخ والتحليل والتحريم من دون الله ، وقد شنع القرآن عليهم ذلك في قوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ...." (التوبة 31 )
2 ـ مبدأ الحاكمية :
يرى الخائفون من الدولة المسلمة من العلمانيين والليبراليين وغير المسلمين أن الجماعات الإسلامية كلها تتمحور حول فكرة الحاكمية ، حتى أصبحت أهم المنطلقات الفكرية عند التيار الإسلامي المعاصر ، ألا تعني الحاكمية أن الحكم لا يكون إلا لله ، ولا يمارس إلا باسمه وحده ، الأمر الذي لا يأتي إلا بدولة دينية ، ولا يتمخض إلا عن طغيان يمارس باسم الدين ، وكهنوت يفرض وصايته باسم الشريعة على عامة المواطنين ؟ .
ويرد الدكتور صلاح الصاوي على هذا الخلط والالتباس فيقول جزاه الله خيراً : ( ولعل منشأ هذه الشبهة هو الخلط بين مصدر السلطة السياسية ، وبين مصدر النظام القانوني ، فالسلطة في الإسلام مصدرها الأمة ، والنظام القانوني مصدره الشارع ، وهذا المصدر الرباني للنظام القانوني لا يضفي أي قداسة على النظام السياسي ، ولا يعني بالضرورة أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من الحق الإلهي ، بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل ضمانة تحول دون طغيان السلطة السياسية ، لأن هذا النظام القانوني يخاطب الحاكم كما يخاطب المحكومين ، ويخضع له الجميع حكاماً ورعية على السواء ، ولا سبيل إلى تغييره أو العبث به باصطناع أغلبية مأجورة تتبنى أهواء الحاكم داخل المجالس التشريعية ، كما هو الحال في كثير من الأنظمة الوضعية )(2) .
3 ـ الحاكم المسلم يخضع للشرع مثل أي مواطن :
ومما يؤكد أن الدولة المسلمة دولة مدنية ، أن الحاكم يخضع تماماً للشرع مثل أي مواطن ، ولا يتميز عنه بشيء ، وهذا سر عظمة الإسلام كما يتبين من الأمثلة التاريخية التالية :
أ ـ في غزوة بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه ، وفي يده قدح ( سهم ) يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية وكان خارج الصف ، فطعن في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ، قال : فأقدني ( أي أقتص منك ) ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال : استقد ، فاعتنقه فقبل بطنه (3).
ب ـ قال العتبي : بعث إلى عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوب فصعد ( عمر ) المنبر وعليه حلة ، والحلة ثوبان ، فقال : أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان : لا نسمع . قال (عمر ) ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : لأنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة . قال عمر : لا تعجل يا أبا عبد الله . ثم نادى : يا عبد الله ، فلم يجبه أحد ، فقال : يا عبد الله بن عمر ، قال : لبيك أمير المؤمنين . قال عمر : نشدتك بالله ، الثوب الذي اتزرت به هو ثوبك ؟ قال : اللهم نعم . فقال سلمان رضي الله عنه : أما الآن فقل نسمع (كتاب عيون الأخبار 1/55) .
ج ـ وكان القصاص من الحاكم أمراً عادياً ، وكتب التاريخ تروي لنا الكثير وهذه منها : ذكر ابن الجوزي أن عمرو بن العاص قال لرجل من المسلمين كان معه بمصر : يا منافق ، فشكاه إلى عمر بن الخطاب فكتب أمير المؤمنين إلى والي مصر يقول له : أما بعد فإن فلاناُ ذكر أنك نفّقته ، وإني أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين ، فقام الرجل فقال أنشد الله رجلاً سمع عمروا نفقني إلا قام ، فقام عامة أهل المسجد ( يشهدون ضد الحاكم (4) فقال له حشم عمرو : أتريد أن تضرب الأمير ؟ قال : وعرض عليه الأرش ( فدية مال ) فرفض ، فقال عمرو : اتركوه وأمكنه من السوط وجلس بين يديه ، فقال الرجل : أتقدر أن تمنع مني لسلطانك ؟ قال عمرو : لا ، فقال الرجل : فامض لما أمرت به فإني أدعك لله ) . ( مناقب عمر لابن الجوزي ص 66) .
د ـ القضاة يحكمون على الخلفاء : روى البيهقي أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي ابن كعب رضي الله عنهما خصومة في حائط ، فقال عمر : بيني وبينك زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله ، فلما دخلا عليه قال له عمر : جئناك لتقضي بيننا ، وفي بيته يؤتى الحكم . فتنحى له زيد عن صدر فراشه ، فقال عمر : جرت يا زيد في أول قضائك ، ولكن أجلسني مع خصمي ، فجلسا بين يديه ، فادعى أبيّ وأنكر عمر ، وحكم زيد على عمر باليمين فحلف عمر رضي الله عنه (5).